المقالات

مشروعات الهُويَّة السودانية

مليح يعقوب حماد باحث بالمركز الأفريقي للديمقراطية والتنمية

مشروعات الهُويَّة السودانية

مليح يعقوب حماد

باحث بالمركز الأفريقي للديمقراطية والتنمية

هنالك مشروعات عديدة مطروحة حول أزمة الهوية السودانية، وسوف نتطرق إليها في هذا المقال لمعرفة الأنسب منها مع تركيبة السودان. ونبدأ أولًا بالسودانوية والتي تم التواثق عليها في الدستور الانتقالي لحكومة السلام التي يقودها التحالف السوداني التأسيسي (تأسيس). و(السودانوية) عبارة عن مشروع وسطي واقعي ويسعى إلى ترسيخ مفهوم السودنة ويرتكز على حاضنة شعبية عريضة ترى أن: (السودان للسودانيين) ولا يحق لأي كائن أن ينزع عنهم حقوقهم، ويعتبر نوعا ما أقرب للتجربتين الرواندية و الأمريكية مع وجود بعض التباينات. ففي رواندا مثلا وبعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها، تواثق مواطنوها على أنهم جميعًا روانديون، وأجازت الحكومة قانونًا يحاكم كل من يذكر اسم قبيلته، ونلاحظ أن الحرب الرواندية نشأت في ظروف وملابسات غامضة مختلفة عن السودان، ورواندا دولة صغيرة في حجمها وفي عدد قومياتها والتي من أشهرها (الهوتو والتوتسي) على عكس السودان الذي يعتبر دولة شاسعة ومترامية الأطراف ويتكون من حوالي 413 قبيلة، ويسهل على مواطنيه أن يتواثقوا جميعًا على أنهم سودانيون، ويسهل على الدولة أن تقوم بتطبيق القوانين الرادعة والداعية للمساواة والعدالة والحرية ومحاربة العنصرية، ولكن قد يستحيل عليها منع مواطنيها من ذكر قبائلهم. فالمسوِّقات الموضوعية التي استندت عليها رواندا مغايرة للسودان، والذي يمتاز بتركيبة سكانية مختلفة عن رواندا من حيث التنوع إضافة للقوانين الدولية ذات الصلة والتي قد تلزم الدولة بالامتثال لنموذج علماني سودانوي مطابق لتركيبة سكانها؛ فالقبيلة مثلًا مذكورة في القرآن حيث يقول تعالى في محكم تنزيله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات : 13]

ومن أشهر الأقوال السودانية: (نعم للقبيلة ولا للقبليّة). فالقبليّة المتجزّرة في نفوس السودانيين يمكن القضاء عليها بالتوعية مع تطبيق القوانين الناجحة في محاربتها، ويكمن الاختلاف بين الثورتين الرواندية والسودانية في أن الأولى نشبت ضد الأغلبية الحاكمة بينما الثانية نشبت ضد الاقليّة الحاكمة، وإذا ربطنا النموذج الأمريكي بالسوداني نجد أن أمريكا تجاوزت أزمة الهوية عبر نظرية بوتقة الانصهار الأمريكية كما نلاحظها بطريقة أو بأخرى حافظت على الإنجليزية كوسيلة للتخاطب والمسيحية كدين للأغلبية ومن دون أن تجاهر بذلك في دستورها القومي.

وانطلاقا من تلك الزاوية يرفض البعض من السودانيين (نظرية بوتقة الانصهار) بحجة أنها ستؤدي إلى تذويب الثقافات السودانية في ثقافة واحدة، ومن ضمنهم أبكر آدم إسماعيل، ومحمد جلال أحمد هاشم، الذان يفضّلان منظور الوحدة في إطار التنوع كبديل -حتمي- لبقية المناظير، ولا ألتمس لهم عذرًا في ذلك، لأن المقصود بالانصهار هو التعايش مع الآخر وليس التلاشي والذوبان، والثقافة القويّة تفرض شروطها وأدواتها وبشكل طوعي واختياري من دون أن تستقوي بمؤسسات الدولة، فاللغة العربية مثلا قد اثبتت جدارتها في التخاطب وتوحيد الوجدان السوداني، وأرى أنه لابد للسودان أن يستعين بكل ما من شأنه إدارة التنوع مثل: (بوتقة الأنصهار السودانية والأمريكية ومنظور الوحدة في إطار التنوع والفيدرالية والديموقراطية والعلمانية والعدالة الاجتماعية والتعادل الجهوي والتنمية المتوازنة والخصوصيات الثقافية والعرقية واللغوية والدينية).

وهنالك مشروع للهوية يدعو للدولة الدينية وتتبناه الحركة الإسلامية وهو عبارة عن مشروع دنيوي وإرهابي وطفيلي وانتهازي واستهبالي وتجاوزي واستعماري وتقسيمي ولا تربطه صلة بالإسلام والأديان الأخرى ويختزل الأمة في نفسه وهو الذي تسبب في انفصال الجنوب وتدمير ما تبقى من سوداننا الحبيب؛ ولن نكلّف أنفسنا مشقة الغوص في تفاصيله المعقِدة، وهنالك مشروع آخر يدعو للهوية الانتخابية ويتبناه مؤتمر الطلاب المستقلين، أصحابه حذرون للغاية ويخشون من التعرض للنقد المجتمعي، بارعون في تحليل المعضلات وفاشلون في علاجها، ويتركون الناس عالقين في الهواء من دون طوق نجاة، ينطبق عليهم المثل الشعبي:(دق القش وما قال كش) حيث لايفترضون وجود هوية مسبقة، ويراهنون على عمليات الانتخاب التاريخي والتي تتم بالتزاوج والانصهار المتوراث عبر الآجيال.

ويتركون الخيار مفتوحا لكل من يرى في نفسه عربي، أو إفريقي، أو كوشي، أو سوداني؛ فالانتخاب التاريخي يعتبر جزء من الانصهار الطبيعي الفطري الرباني ويحتاج لمئات السنين حتى تصل الهوية لمرحلة الاندماج الكامل. وهنالك مشروع آخر للهوية، ويتبنّى خيار الدولة الكوشية ونعتبره غير مواكب وموغل في التقليدية، حيث يرى أصحابه أنهم الوريث الشرعي لكوش، يختزلونها في أنفسهم؛ حتى لو افترضنا جدلًا أن جميع السودانيين أحفاد لكوش. فكوش قد انهارت ونهضت على إثرها حضارات جديدة ذابت في المنظومة الأفريقية، وبين كوش والسودان مياه كثيرة مرّت تحت الجسر ، والمشروع الكوشي غير واقعي وقد يفتح أبوابا جديدة من الصراع والسودانيون في غنى عنها. فالهوية متغيرة وغير ثابتة ولا تقف في مرحلة تاريخية محددة، وهنالك تيار آخر للهوية يطالب بالأفروعمومية وينتشر بين حركات التحرر الوطني، ويقف أصحابه على مسافة واحدة من الدول الأفريقية، وأرى أن الأفروعمومية كمشروع للهوية قد يصلح للقارة وليس الدولة؛ فلكل دولة هوية خاصة وتمثّل بالنسبة لها علامة بارزة تميّزها عن غيرها.

وهنالك مشروعان آخران للهوية: أحدهما يصر على أن يظل السودان دولة عربية والثاني يطالب بأن يكون دولة أفريقية. وهذان المشروعان متنافران ولا يثقان في بعضهما البعض ولا يلتقيان في محطة واحدة ويستهبل كل منهما على الآخر ويحاربه بنفس أدواته المبنية على القهر والذل والهيمنة وإذا استتبع أحدهما أخيه سوف يختزله في داخله وقد يجهز عليه مستقبلا.

وهنالك مشروع آخر للهوية وهو مطروح تحت مسمّي الأفروعربية، وتتبناه النخب المركزية الحاكمة والمعارضة المعروفة بالتناقض والازدواج الذي يبرهن عدم قدرتها على الفكاك من تعقيدات الثقافة السياسية السودانية المركبة من ثنائيات الهوية والاستعمار، وترى هذه المجموعة أن السودان دولة مزدوجة عربية وأفريقية وتستلهم نهوضها من تفاعل الثقافات الأصيلة والوافدة.

وهنالك مشروع آخر للهوية يرى أن موضوعها انصرافي، ويتهرب أصحابه من مناقشته، مع عدم امتلاكهم رؤية واضحة لإدارة التنوع، وهكذا… كما يقول بن الصيفي (فكل إناء بالذي فيه ينضح).

ومن خلال ما ذكرناه من أطروحات حول أزمة الهوية السودانية، نكون قد وصلنا إلى نقاط مضيئة، في آخر الأنفاق، وقد تنتشلنا من الضياع. وكما ذكرنا في مقالات سابقة فإن الهوية السودانية وبرغم ماتعانيه من شروخات ظلت صامدة في وجه الأمواج وخالدة في وجدان الأمة ولم تستسلم لما يدار حولها من نزاع، والطريق الأمثل لتجاوز أزماتها يبدأ أولا بتحرير العقل من الأيديولوجيا والأمراض والتبعية والجهويات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى