المقالات
(يوم الموية)..

كتب: ماجد القوني
(يوم الموية).. أخذ تموضعه في المتعارف اللغوي اليومي لسكان الخرطوم، والنازحين من الولايات الأخرى، وأُعتبر طقسا وجوديا خالصا خلال أشهر الحرب في الخرطوم، يوما تعد له العدة وتلغى له البرامج والالتزامات، لدرجة تأخير تشييع جنازة، الصلاة، تفويت وجبة، أو أي برامج أخرى يمكن أن تنتظر، يبدأ (يوم الموية).. بتحضيرات جمع مبلغ (الوقود) من سكان المنازل،(الهميم) من شباب الحي، يقوم بالطواف لجمع المال، (ألف، ألفين، تلاتة) بعضهم لا يمتلك سوى الدعوة للهميم بطول العمر، وأن تغشاه بركات السماء برحمتها، بعد اكتمال المبلغ المطلوب لتشغيل (البيارة) يتم اخطار سكان الحي أن غدا (يوم الموية)..الذي يتحدد حسب الحاجة، بعض المناطق يكون كل ثلاثة أيام أو خمسة.
منذ الصباح الباكر يبدأ تحضير أواني المياه و(الدرداقات)، مشاركة جميع الأسرّة في عملية النقل، يعني توفير مخزون كافي حتى (يوم الموية) القادم، وتبدأ رحلة الإنهاك خلال ساعة او ساعتين تمتد أحيانا لخمس ساعات، تُملأ من خلالها كل أواني المنزل عدا (الخزانات) التي على أسطح المنازل لصعوبة الوصول إليها، الطقس الأخير في (يوم الموية) يتمثل في الاصطفاف للاستحمام، واحد تلو الآخر، قبل أن تُغلق البيارة ويصمت هديرها المطمئّن للسكان بانسياب المياه.
ليلتها يتنفس السكان بعض الراحة على خلفية استحمامهم الدوري، اليوم التالي يتم تصنيف أواني المياه للشرب، الغسيل، والاستحمام – المنضبط- عند الضرورة، أو استخدامات أخرى، يتم صرف مياه الاستحمام حسب الحجم ودرجة الاتساخ، غسيل الملابس يخضع لضوابط مشدّدة، وحيث أن الزيارات الاجتماعية أُلغيت أو كادت بسبب الحرب، فإن الغسيل لا يشمل الملابس الرسمية (ملابس المرقة)، يكفي أن تغسل ملابس البيت المستهلكة بعدد الأيام التالية حتى (يوم الموية)، الشرب والطبخ يستحوذان على النصيب الأكبر من مخزون المياه، ومن المستحسن أن تحافظ على الوضوء للصلاة القادمة.. مياه الغسيل و(الأواني والملابس) تستخدم لتصريف المجاري والمنهولات.
(الحرب) التي أوجدت الأزمات، أوجدت بشرا قناعتهم أن الموت (ملاقيهم) لكن عليهم الاستمساك بالحياة، عشرات التحديات يواجهها الانسان هنا والتي يمكن أن تقتله، انقطاع الكهرباء والمياه لأشهر، غياب المساعدات الإنسانية طوال عمر الحرب، شح الأدوية المنقذة للحياة، انعدام مصادر الدخل، التشكيل النوعي للغذاء، التخوين..
(يوم الموية).. بدعة توافق عليها السكان هنا بعد انقطاع الكهرباء، مع الحاجة الشديدة للمياه، وبعد النيل عن المنطقة تفتقت الأذهان عن تشغيل (البيارات) وتوفير كهرباء تُقتطع قيمتها من قيمة حليب الأطفال، كيس الخبز، الدقيق، جرعة الدواء.. من أجل توفير الماء عصب الحياة..
التساؤلات هنا.. أُجملت في متى تعود الكهرباء..؟ المياه؟ الحياة؟ متى يحس المواطن بانسانيته وتوفير أبسط مقومات حياته.. مجرد توفير المياه.. مياه لن يبقى بدونها إنسان على قيد الحياة.. فهل ينتظر المواطن فرحة أن تعود الكهرباء.. أم يضع أوانيه في انتظار غيث السماء..؟